عبدالكريم هداد يكتب: الإبداع  في زمان الصمت لطلال مداح

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

إن الأغنية هى إحدى أشكال التعبير الإنسانى فى بيان المشاعر الفردية أوالجماعية، وهى انعكاس لأوجه الحياة الاجتماعية ومستوياتها الحضارية التى يعيشها الفرد مع تطلعاته الخاصة والعامة، إضافة لتأثير البيئة بما يرافقها من  أحداث  قريبة أو بعيدة.  لذا هى إبداع فنى موسيقى  يعتمد الشعر فى ترادف وتوافق متجانس يعتمد الجمالية المنسجمة والمترابطة مع بعضيهما بما لا يمكن الفكاك بينهما.

وتبقى المقاييس الإبداعية نسبية فى التكوين من حيث الرقى والدلالة والتعبير والتوثيق عبر ترابطية أضلاع مثلث تكويناتها الذى تعتمده بأبعاد متساوية المساحة والتشكيل والتداخل فى ما يراد إيصاله، عبر النص واللحن والأداء، إضافة لما تمنحه الآلات الموسيقية وهى تصاحب تقديم الأغنية وأدائها.

ومن هنا يكون النص هو انطلاق الأغنية وولادتها المستندة على أسس الذائقة الشعرية وجمالياتها من ناحية الموضوع والإسلوب واللغة للتعبير عن الرؤية فى تشكيلها وبيان غاية رسالتها.

ويستمد الإبداع أساليب صياغة جمال النص فى إعادة ترتيب مشاهد الحياة الإنسانية بواسطة لغة تعبق شفافية هواجس الروح والعذوبة المنسابة فى وضوح الصورة وحركة إيقاعها ولونية تشكيلها الذى تفرضه متطلبات الوهج الشعرى المعتق بموسيقى المفردة المستخدمة من أجل العبور نحو ملامسة دواخل نوازع النفس البشرية بعيداً عن الهياج الحسى فى صياغات التعبير الفاضح.

والذى بات هو العمود المسند لأغلبية نصوص الأغانى العربية شرقاً وغرباً، والتى اقتربت كثيراً من التعرى الحسى المباشر ضمن عوالم خالية من أساليب اللغة الشعرية التعبيرية التى اكتنزتها لغة الشعر العربى وقوافل الشعراء منذ الجاهلية حتى عصرنا الحالي.

بل أصبحت النصوص الغنائية مليئة  بالركاكة والسذاجة والترقيص الساذج والمتكرر فى ذات الفكرة التى بهتت وهى تتغطى بإيقاع الموسيقى الإلكترونية الموجعة بالصخب خلال العقود الثلاث الأخيرة.

وقد لفت انتباهى فى أغنية الفنان الراحل طلال مداح (١٩٤١-٢٠٠٠)، – زمان الصمت -  ذلك التوازن الإبداعى الناضج والمتوازن فى التشكيل والدلالة وقوة تكوين أركانها الثلاث ( النص، اللحن، والأداء). فالنص سلس بعذوبته ومتين فى التعبير والتكوين وممتلك للرؤية الإبداعية للموضوع المراد التعبير عنه من حيث الصورة الشعرية ومعجم المفردات الزاخرة بالموسيقى الصادحة خلال بناء النص وهى تقترب أو بالأحرى تتماهى ولغتنا العربية الفصيحة.

والنص وحده قصيدة شعرية وافية الخواص ومكتملة الشروط الأساسية فى البناء الفنى المطلوب فى القصيدة من ناحية أدوات الشاعر ورؤياه. وهنا أجد أن الشاعر المبدع الأمير “ بدر بن عبدالمحسن “ كاتب متميز على الدوام، بما يمتلكه من تجربة شعرية طويلة ومميزة بما فيها من حداثوية فى مسيرة كتاباته الشعرية.

وحتى تلك المنغمسة فى مفرداتها المحلية، فهى تنضح بشاعرية كاتبها التى حصنت له مكانة خاصة ومتفردة، بما لديه من نصوص شعرية، منها الغنائية التى تعامل معها العديد من فرسان الأغنية العربية لما فى نصوصه من خواص جمالية واضحة فى ثراء غنائيتها حيث المفردة المشبعة برنين النغم السلس الذى يوده مبدع اللحن فى التجلى والترنيم والتغريد والطرب بما لها من سعة وإمكانية فى أن تملأ مساحتها فى جملة لحنية متوازية معها  فى الوصول للتطابق مع الصورة الشعرية التى نسج منها الشاعر موضوع النص ورؤياه.

وما يلفت النظر فى نص أغنية – زمان الصمت – أن النص قد كتب بأدوات قصيدة عربية ناضجة الرؤيا والتكوين، وأنا أجزم بذلك، وقد حدد مسارها الشعرى وهو مشبع بالرمزية الراقية فى ترسيم مشهد الفقدان بفعل الرحيل.

وهذا ما يميز تجربة الشاعر الأمير “بدر بن عبدالمحسن”  فى عالم أغنيته فهو يكتب بهاجس تكوينه الشعرى الخاص، فهو شاعر له أدواته الخاصة تساعده على ذلك ذائقته وثقافته الراسخة التى تصقل رؤياه الشعرية، وهذا ما لمسته من خلال متابعتى لبعض لقاءاته التليفزيونية التى وجدت فى حواراته الكثير من الشاعرية والتواضع وجمال الرؤى. 

ولهذا لم تغب خواص القصيدة الشعرية العربية فى وضوحها الكثير فى ثنايا نصوصه، أو بتعبير آخر هو لم يتخلَ عن الشعرية حتى فى كتابة الأغنية المليئة بالمفردات المشعة برنينها الموسيقى السلس، التى ترسم لنا نجاحه كمبدع متمرس فى تقديم نص متكامل البناء وصور المشهد المتعددة التى تلتحم مع بعضها فى غاية المحتوى العام  المراد التعبير عنه وإيصاله عبر خيال الشاعر الفياض.

وهنا أؤكد اعتقادى أن الشاعر قد كتب نصه بشروط تجربته الشعرية ودلالة خواص قصائده وصوته الشعري، ليأتى الملحن متسابقاً فى جريه مع فكرة النص وتكويناته ليمنح لنا ما فى أعماقه من دلالات أخرى توازى نبع الكلمات وتمنحها أبعاداً ومساحات تكفى بتوازن وتجاوب لتطريز رقصات اللغة الموسيقية ليذيب فيها هواجسه النغمية وصقلها كأغنية عبر اللحن. وهذا ما قام به الفنان الراحل – طلال مداح- فى صياغة هذا النص كأغنية.

وفيما أثبت الفنان الراحل - طلال مداح - فى تلحينه لهذه القصيدة، إنه فنان مقتدر فى موهبته وفنه وأدوات خياله الموسيقى فى منح القصيدة لحناً لافتاً فى بنيته على أسس فنية راقية وجميلة وممتعة فى خطى ترجمة لحنية توازى الصورة الشعرية، فكان اللحن متفجراً بصيغ التصوير التعبيرى للكلمة ونسقها فى مشهدية الصورة الشعرية.

وحيث الدخول “ بحرف الواو” الذى هو حرف جهور فى لغتنا العربية والذى مهد لنا فى معيته الدخول بقوة حيث انفجار صرخة مفجعة تأخذ بعدها من عمق الروح نحو البعيد  الى حد الذبول فى المناداة المتألمة بخسارة لا تعوض.

وكان صوته جباراً فى هول النداء المختنق والمكتوم بعبرته المجبولة بحزن الفقدان الكبير الذى تبنته القصيدة، فكانت كأنها تعبر وادى ليس فيه رجع للصدى حيث أنين ألمه  الذى وجد فيه الخفوت حتى لم يبقَ منه شىء وقد تمثل اللحن فى تأطير الغناء فى توصيف الصورة بكل أبعادها فى اللوحة الشعرية الأولى، حيث نجح الفنان الكبير الراحل - طلال مداح - نجاحاً كبيراً فى تشطير القصيدة لمقطعين فى لحنه المكتنز بما أراده الشاعر فى نصه من التعبير عن حالة الفراق.

وكأن مقطعى الأغنية جناحان فى رفيف هواجسه التى ترادفت مع رومانسية حزنه الذى فاض فى لحنه. وهذا التشطير للنص منح الملحن الفنان طلال مساحة إضافية فى نحت مفرداته الهامسة والباهرة فى عذوبتها من أجل إبراز ما أراده خيال المؤلف فى التعبير عنه بتجلى موسيقى واضح الملامح، ووشاحها الحزين الذى فرضته مفردات غنائية النص ورومانسيته الراسخة والتى هى انعكاس متوهج لإبداعية الشاعر وتجربته الشعرية الطويلة.

وحين ننصت لأغنية – زمان الصمت – نجد أن اللحن  فيه الكثير من إبداعية الفنان الراحل – طلال مداح – كملحن لها، عندما جعلها أغنية معبرة ومتفجرة بالأحاسيس الكامنة والمدهشة فى موازاة الصور الشعرية اللافتة فى تكوينها وبنائها بعيداً عن إيقاع النص أو رنين القافية،  فقد ساير اللحن نفسه بإيقاع روحيته النابضة وتنويعات أنغام  معانى القصيدة وصورها الشعرية المتجسدة فى تكوين الموضوع المبنى على مشهد الفقدان وقساوة حدث الرحيل. وهنا كان - طلال مداح - واضحاً فى مرافقة حساسية الشاعر الرومانسية المميزة له من حيث نجح الملحن هنا بشكل كبير فى إيجاد المساحة اللحنية فى التلاحم مع تكوينات القصيدة وصورها المتتالية فى بنائها المترابط، من غير أن يستأسره إيقاع وموسيقى عروض النص المميزة، بل أضاف لها هالة من النضوج التعبيرى من خلال تشكيل جديد لنسق النص، فقد جعل القصيدة الشعرية الأصل تطل من رقى مكانتها وهى هادئة فى معاييرها الأدبية الخاصة، فأعطى مداح القصيدة مسافة ضرورية ذات جمالية مناسبة بخصوصية لحنه فى بيانها اللغوى وبناء الإيحاء ومتعة الجمل الموسيقية المصاغة برقة وعذوبة بيئته الحجازية المتنوعة بشواهق جبالها وشعابها وعالم شطآن بحرها الأحمر الجميل ومدنها العابقة بكل ماضيها الراسخ فى عمق التأريخ.

وفبداية اللحن تنطلق مع مقدمة موسيقية ممهدة للدخول فى عالم القصيدة التى باتت أغنية بكل تفاصيلها الإبداعية، حيث اللحن وحركة الكمنجات القصيرة والسريعة والمرتكزة على رنين ناقوس يشد الإنتباه، وهى تملى الدخول نحو اللحن ومساحة الصور الشعرية وأبياتها المنحوته على زمان الصمت ودرب توثيق مايكفى فى ملء العمر حزناً من ألم الفراق والغياب الذى لا رجعة فيه والتأكيد على أنه سيكون طويلاً، والخطى الثقيلة ذابلة،  فكان الصدى يسكن سكون الصدمة وصرخة النداء بمعية الترحال والذبول فى ما بعد الفراق الذى أنبت هموماً لسنين العمر القادمة، لهذا أبدع الراحل - طلال مداح - فى صياغة الصرخة المنطلقة من أعماق الروح اللاهثة وراء الفقدان، فكانت مفردة “ترحل” وحرف “الواو” الذى هو أحد حروف المد الصوتى الثلاث فى اللغة العربية، وهو هنا يقع فى نقطة ارتكاز مفتاح زمنى لتمكين المناداة فى ملئ مساحة الجملة اللحنية بوجع وألم الصرخة الراحلة إلى حيث زمان - المكان المفتوح، حين ترمى الأغنية اإلى تفاصيل ما بعد الحدث- الرحيل، فجاءت بفجأة وقع مفردة “ وترحل “ وما بعدها هى صرخة مكتومة لشدة ثقلها والوجع المحمولة به، وكأنها اختناق صوت فى كابوس، وليس من وادى لا صدى فيه للصوت إلا صوت صرخة الألم فى وادى الروح الكاتمة...

وترحل... صرختى تذبل... فى وادي... لا صدى يوصل... ولا باقى أنين...زمان الصمت... ياعمر الحزن والشكوى...يا خطوة ماغدت تقوى... على الخطوة... على هم السنين.

وفى الشطر الثانى المكمل للقصيدة الملتهبة فى مشاعرها الراقية وهى تفز ناصعة بسموها، يتجلى اللحن فى تصاعده بما يعطى المساحة المطلوبة للمناجاة والنداء والتنبيه فى تحديد ملامح من كان فراقه هو الخسارة والتيه والانكسار وضياع ملامح الأشياء.

وحتى سكنت الروح فى طربها السلس الغارق فى هاجس الحنين حين صاغها الفنان الراحل - طلال مداح - بعذوبة مملوحة برقى عالى الجودة عبر مفردة المناداة “ حبيبي... يا حبيبي” التى أسجل فرادة صياغة اللحن والأداء لها، فقد ذكرت مفردة “ حبيبي”  فى مئات من الأغانى العربية.

ولكن فى هذه الأغنية، كانت الجملة اللحنية والأداء الصوتى قد أوضحا كل الدلالات الروحية فى أعذب وأجمل نغمة وأداء فى المناداة، فكان النداء من أرق ما يكون ومليئاً بالشجن والحنين  الذى يلهب حواس ومشاعر المستمع.

 لقد كان اللحن فيه ترابط وعنفوان راقٍ فى عالم النص- القصيدة، فما برح الحبيب يملأ سنين العمر منقوشاً اسمه الخالد فى نفس العاشق وعلى جدار الوقت وسيبقى يناديه :

حبيبي... كتبت اسمك على صوتي...كتبته فى جدار الوقت...على لون السما الهادي...على الوادي...على موتي... وميلادي...حبيبي... لو أيادى الصمت...خذتني... لو ملتنى ليل...

أنا عمرى انتظارى لك ولاتحرمنى حياتى لك...وترحل صرختي... وتذبل وتبقى أى أغنية ذات خواص خاصة بها ونابعة من ظرفها الابداعي، خالية من التقليد، ولم تولد فى أجواء مسايرة لنجاحات أغانٍ أخرى سبقتها فى عالم الأغنية العربية، فولادة الأغنية ونجاحها حسب رأيى لن يكون فى ما تمتلكه من دعاية مفتعلة أو صدفة ابتهاج تداولها فى الأعراس والتجمعات الليلة، بل نجاح الأغنية يأتى من خلال تعبيرها كتجربة إنسانية خاصة تتسع من خلال مشتركاتها مع تجارب إنسانية أخرى تمنحها القدرة على الانفعال والتعبير الطبيعى بما تمتلكه من مقومات الإبداع  التى لن تكون مفتعلة الدلالة عبر أدوات الجمال وانفعالات التعبير لدى الشاعر والملحن والمغني.

اقرأ أيضاً | «أخبار الأدب» تناقش مستقبل صناعة النشر فى مصر

نقلا عن مجلة الأدب :

2023-3-12